الأحد 15 يونيو 2025
مادة إعلانية

فتاة سحلول –يلا سوريا

في بلد مزقته الحرب وشردت أبناءه، لا يزال السوريون يلاحقون ظلال أحبّائهم في صور قديمة، في شريط ذاكرة متشظٍ، وفي وعود العدالة المؤجلة.

وبينما تحاول سوريا اليوم النهوض من ركامها، تطفو على السطح واحدة من أفظع الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد” اختطاف الأطفال” وفصلهم عن عائلاتهم بشكل منهجي خلال سنوات من القمع والملاحقة.

وفي تحقيق موسع نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، كُشف النقاب عن ممارسات ممنهجة قام بها النظام البائد، حيث اختطف المئات من الأطفال السوريين أثناء حملات اعتقال جماعية ومداهمات عنيفة استهدفت المعارضين وأسرهم.

التحقيق الذي أُنجز بالتعاون مع الحكومة السورية الجديدة، استند إلى وثائق سرية وشهادات معتقلين سابقين، أظهر أن نحو 3700 طفل ما زالوا في عداد المفقودين.

وتشير المعلومات إلى أن ما لا يقل عن 300 طفل جرى نقلهم إلى دور الأيتام بين عامي 2014 و2018، دون معرفة كاملة بهويتهم أو مصيرهم لاحقًا.

ومن بين القصص الأكثر إيلامًا في هذا الملف، قضية رانية العباسي، طبيبة الأسنان وبطلة سوريا السابقة في الشطرنج، التي اعتُقلت مع أطفالها الستة من منزلهم في حي دمر بدمشق عام 2013، ولم يُعرف أي شيء عنهم منذ ذلك الحين.

زوج رانية، الذي سبقها إلى الاعتقال، توفي تحت التعذيب، وظهر اسمه ضمن صور الضحايا المسرّبة في العام ذاته. أما رانية وأطفالها، فظل مصيرهم مجهولاً لأكثر من عقد، قبل أن تظهر أدلة جديدة تُرجّح وجود بعض الأطفال في مؤسسات الرعاية الرسمية.

الذكاء الاصطناعي في البحث عن الوجوه

في محاولة يائسة للعثور على أثر، استعانت العائلة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لمحاولة تخيل كيف سيبدو الأطفال اليوم بعد 12 سنة من الغياب، إحدى النتائج أظهرت تشابهًا بين فتاة ظهرت في فيديو دعائي و”ديما”، ابنة رانية، إلا أن منظمة SOS المعنية برعاية الأطفال نفت وجود أي صلة وفي حالة أخرى، تعرفت العائلة على فتى يُدعى عمر عبد الرحمن، يشبه أحمد، الابن الأكبر، لكن اختبار الحمض النووي أظهر أنه ليس هو.

منظمة SOS أعلنت أنها استقبلت 139 طفلًا دون أوراق ثبوتية خلال فترة حكم النظام، وأكدت أنها طلبت إيقاف هذه الإحالات منذ 2018، لكنها أشارت إلى أن العديد من الأطفال أُعيدوا إلى سلطات النظام، دون الكشف عن مصيرهم النهائي.

دعوات للبحث والكشف

وبعد سقوط النظام البائد، أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل حملة لدعوة ذوي الأطفال المفقودين إلى التوجه لمديرياتها وتقديم أي معلومات تفيد في البحث عنهم في موازاة ذلك، تواصل منظمات دولية تحذيراتها من أن تجاهل ملف المختفين سيبقي جراح الحرب مفتوحة.

تقول كاثرين بومبرغر، المديرة العامة للجنة الدولية للمفقودين: “الفشل في معالجة هذه القضية قد يغذي دوامات جديدة من العنف”.

وتضيف الصحفية إيزابيل كولز، التي تابعت الملف عن قرب: “الصور الرقمية كانت كشمعة في نفق البحث، لكنها لم تُضف أكثر من حزن جديد حين لم تتطابق الوجوه.”

وفي مشهد يلخّص كل هذا الحزن، تتأمل نائلة العباسي، شقيقة رانية، صورة قديمة لأحمد وهو يضع على رأسه تاجًا ورقيًا في عيد ميلاده، وتقول:
“لن نغادر سوريا قبل أن يعودوا جميعًا.”

عدالة مؤجلة وذاكرة لا تموت

رغم مضي السنوات، لا تزال الحقيقة مغيّبة والعدالة مؤجلة فمصير آلاف الأطفال ليس مجرد ملف إداري، بل جرح وطني مفتوح في ذاكرة السوريين ومع كل كشف جديد، تزداد الحاجة إلى مساءلة حقيقية ومصارحة شاملة، تعيد الحقوق لأصحابها وتمنح الأمهات فرصة لدفن أولادهن إن كانوا اموات، أو احتضانهم إن ظلوا أحياءً خلف الجدران.

سوريا لا يمكن أن تنهض بحق، ما لم تواجه ماضيها بكل شجاعة، وتُعيد بناء مستقبلها على أسس من الحقيقة والعدالة، لا النسيان.