الأحد 15 يونيو 2025
مادة إعلانية

يلا سوريا- بدر المنلا

أثار المؤتمر الصحفي الأخير للجنة السلم الأهلي في دمشق جدلاً واسعاً، بعد إعلانها منح “الأمان” للقيادي السابق في قوات النظام فادي صقر، والإفراج عن عدد من الضباط العسكريين الموقوفين، ما دفع محامين في محافظة حمص إلى توجيه انتقادات حادة، واعتبار ما جرى “تجاوزاً خطيراً لمبادئ العدالة الانتقالية وانتهاكاً لحقوق الضحايا”.

وفي بيان رسمي، قالت لجنة العدالة الانتقالية والدفاع عن حقوق الإنسان في فرع نقابة المحامين بحمص، إنّ لجنة السلم الأهلي ارتكبت “خرقاً دستورياً” من خلال إعفاء شخصيات متهمة بانتهاكات جسيمة من المساءلة، معتبرة أن هذه الخطوة تشكل “صك عفو وغفران” وتغفل الحقوق القانونية للضحايا وأولياء الدم.

انتقادات لمؤتمر صحفي أثار غضب الشارع الحقوقي

كان المتحدث باسم لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، قد أعلن خلال مؤتمر صحفي عقده يوم الثلاثاء في وزارة الإعلام، أن الدولة السورية منحت “الأمان” لفادي صقر، وهو شخصية أمنية بارزة في السنوات الماضية، مشيراً إلى دور الأخير في “تفكيك العقد الاجتماعية وحل المشكلات المحلية”.

وأضاف صوفان أن عدداً من الضباط العاملين ممن سلموا أنفسهم في مناطق السخنة وعلى الحدود العراقية أُفرج عنهم بعد التحقق من عدم تورطهم في جرائم حرب، مؤكداً أنهم “لم يخضعوا لأي محاكمات لأن التحقيقات لم تثبت إدانتهم”.

إلا أن محامي حمص اعتبروا تصريحات صوفان “استفزازاً مباشراً” للضحايا، مشددين على أن “لا أحد يملك صلاحية إسقاط الحق العام أو العفو سوى السلطة القضائية، ولا يحق لأي لجنة سياسية أو أمنية تجاوز هذا الدور تحت أي ذريعة”.

انتهاك للدستور وتجاوز لاختصاصات القضاء

وأكد البيان أن ما حدث يتناقض بشكل صريح مع المادة 49 من الإعلان الدستوري، التي تشترط إنشاء هيئة متخصصة بالعدالة الانتقالية، تشرك الضحايا في آليات المحاسبة وجبر الضرر، وترتكز إلى مبدأ كشف الحقيقة ومحاسبة الجناة.

ورأى المحامون أن منح العفو دون محاكمات عادلة وشفافة “يشكل سابقة خطيرة تهدد ثقة المجتمع السوري في مسار العدالة الانتقالية”، وتنذر بتقويض أي فرصة مستقبلية لبناء دولة قانون تقوم على المحاسبة لا على التسويات الفوقية.

تحذير من إعادة إنتاج الاستبداد

وفي لهجة شديدة، رفض المحامون تبرير تلك الإجراءات تحت شعار “مصلحة الدولة”، معتبرين أن طي صفحة الجرائم دون الاعتراف بها ومساءلة مرتكبيها “لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الاستبداد ونسف فرص المصالحة الوطنية الحقيقية”.

ودعوا في بيانهم إلى العودة إلى المسار القانوني، والالتزام بإطار العدالة الانتقالية كما نصّت عليه الوثائق الدستورية والمواثيق الدولية، محذرين من أن “تحويل العدالة إلى مجرد تفاهمات سياسية، يفرغها من مضمونها، ويزرع بذور العنف مجدداً”.

صوفان: لسنا بديلاً عن القضاء.. لكننا نواجه لحظة استثنائية

شدد حسن صوفان على أن اللجنة لا تعتبر ما قامت به بديلاً عن مسار العدالة، موضحاً أن “الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد يفرض التعامل بمرونة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”، حسب تعبيره.

وأضاف أن عمل اللجنة يسير بالتوازي مع اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية التي شُكّلت بمرسوم رئاسي، مؤكداً أن الخطوات المتخذة “مؤقتة ومرحلية” في سياق حماية الاستقرار.

ورغم محاولات التهدئة، فإن ردود الفعل الحقوقية تشير إلى تصاعد الغضب في الأوساط القانونية والمدنية، لا سيما في المدن التي شهدت أكبر الانتهاكات خلال السنوات الماضية، وفي طليعتها حمص، التي دفعت ثمناً باهظاً في سياق الصراع السوري.

اقرأ المزيد

يلا سوريا – هيا عبد المنان الفاعور

يتعرض مئات الأطفال في سوريا للعنف الأسري سنويًا، وسط غياب قوانين صارمة تحميهم من الاعتداءات الجسدية والنفسية.

وتُسلّط قضية الطفل إبراهيم الصطوف الضوء على هذه الظاهرة، حيث تعرض للضرب المبرح على يد عمه وزوجة عمه، اللذين قاما بتصويره وإرسال التسجيلات إلى جده في الأردن، بهدف الضغط عليه لتأمين المال أو إجباره على استلام الطفل.

وكشفت التحقيقات أن إبراهيم فقد والده في قصف عام 2014، ليعيش بعدها في ظروف قاسية داخل منزل عمه، الذي كان على علاقة بأجهزة أمنية خلال فترة النظام السابق.

وأكدت السلطات المحلية أنها ألقت القبض على المتورطين، فيما تم نقل الطفل إلى مركز صحي لتلقي العلاج، وسط تأكيدات بأن التحقيقات مستمرة لكشف جميع ملابسات القضية واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.

وحذرت منظمة “يونيسف” من أن 70% من الأطفال في سوريا تعرضوا لشكل من أشكال العنف، سواء في المنزل أو المدرسة أو المجتمع، مشيرةً إلى أن الفقر والنزوح وغياب آليات الحماية القانونية تجعل الأطفال عرضة للعقاب البدني والتنمر والإساءة النفسية.

وطالب ناشطون ومنظمات حقوقية بتشديد العقوبات على مرتكبي العنف ضد الأطفال، مؤكدين أن غياب قوانين صارمة يجعل الأطفال عرضة للاستغلال والإساءة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها البلاد.

ودعت لجنة الإنقاذ الدولية إلى تعزيز دور المؤسسات الاجتماعية في حماية الأطفال، مشيرةً إلى أن غياب قوانين ردعية فعالة، إلى جانب انعدام المتابعة الاجتماعية، يساهم في تفشي ظاهرة الضرب والإهانة في مراكز الإيواء والمدارس غير الرسمية.

في ظل استمرار حالات العنف ضد الأطفال، تبقى الحاجة ملحة إلى خطوات عملية تضمن حمايتهم وتأمين بيئة آمنة لهم. وبين المطالبات الشعبية والمناقشات المجتمعية، يظل الحل في تعزيز الوعي المجتمعي وتكثيف الجهود المشتركة لتوفير حماية قانونية واجتماعية للأطفال، بعيدًا عن أي استغلال أو إساءة.

قد تكون قضية الطفل إبراهيم الصطوف واحدة من بين العديد من القصص التي تكشف واقعًا يحتاج إلى إعادة نظر، حيث يجب أن تتضافر الجهود بين الأفراد والمؤسسات لضمان مستقبل أكثر أمانًا للأطفال، بعيدًا عن العنف والإهمال.

اقرأ المزيد

يلا سوريا – هيا عبد المنان الفاعور

أعلنت وزارة الداخلية السورية عن إطلاق سراح مجموعة من الضباط العاملين منذ عام 2021، بعد خضوعهم لتحقيقات لم تثبت تورطهم في جرائم حرب، حسب تصريح الوزارة.

وقالت الوزارة إن القرار جاء استجابةً لمطالب مشروعة من أهالي الضباط، الذين دعوا إلى إعادة النظر في أوضاع أبنائهم، وسط تأكيدات رسمية بأن استمرار احتجازهم لا يحقق مصلحة وطنية وليس له مشروعية قانونية.

وسلّمت مجموعة من الضباط التابعين للنظام البائد أنفسهم طوعًا عند الحدود العراقية ومنطقة السخنة، ضمن ما يعرف بحالة “الاستئمان”، وهي آلية تمنح العائدين من صفوف النظام السابق فرصة للمثول أمام التحقيق دون ملاحقة مسبقة.

وأوضحت وزارة الداخلية أن هؤلاء الضباط لم تتلطخ أيديهم بالدماء، مشيرةً إلى أن الإفراج عنهم يأتي ضمن إجراءات تهدف إلى تهدئة التوتر المجتمعي.

وأكد عضو اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي، حسن صوفان، أن هذه الإجراءات ليست بديلاً عن العدالة الانتقالية، التي بدأت بالفعل عبر اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية المشكلة بمرسوم رئاسي.

وأثارت الخطوة ردود فعل متباينة، حيث اعتبرتها وزارة الداخلية جزءًا من مسار حماية القانون والسلم الأهلي والاستقرار المجتمعي، بينما نقلت صحيفة الوطن أن الإفراج عن هؤلاء الضباط أثار حالة من الاستنكار الشعبي، خاصة بين أهالي الضحايا والمفقودين، الذين طالبوا بتطبيق العدالة الانتقالية بشكل أكثر صرامة.

وواجهت الحكومة السورية تحديات كبيرة في تحقيق التوازن بين العدالة والمصالحة، حيث يرى البعض أن الإفراج عن الضباط خطوة نحو تعزيز الاستقرار، بينما يعتبره آخرون استفزازًا للأهالي الذين فقدوا أبناءهم خلال النزاع.

وأوضحت اللجنة العليا للسلم الأهلي أن الإفراج عن هؤلاء الضباط يأتي ضمن إجراءات تهدف إلى تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد، مشيرةً إلى أن وجود شخصيات مثل فادي صقر ضمن هذا المسار يساعد في تحقيق الاستقرار.

وأشارت وزارة الداخلية إلى أن بعض الدول المعادية لسوريا تحاول ضرب السلم الأهلي عبر إثارة الجدل حول هذه القرارات، مؤكدةً أن العدالة الانتقالية لا تعني محاسبة كل من خدم النظام السابق، بل تركز على كبار المجرمين الذين نفذوا جرائم جسيمة.

وأعلنت وزارة الإعلام عن عقد مؤتمر صحفي لمناقشة هذه الإجراءات، حيث أكد المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، أن الاستقرار في سوريا لا يمكن أن يكون فقط بإقامة العدالة، وإنما بمسار راسخ وهو المصالحة المجتمعية.

في النهاية، يبقى الواقع محك الاختبار الحقيقي لهذه السياسات، فهل سيكون هذا القرار خطوة نحو استقرار دائم، أم أنه مجرد صفحة أخرى تُضاف إلى سجل التحولات السياسية؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.

اقرأ المزيد

فتاة سحلول –يلا سوريا

في بلد مزقته الحرب وشردت أبناءه، لا يزال السوريون يلاحقون ظلال أحبّائهم في صور قديمة، في شريط ذاكرة متشظٍ، وفي وعود العدالة المؤجلة.

وبينما تحاول سوريا اليوم النهوض من ركامها، تطفو على السطح واحدة من أفظع الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد البائد” اختطاف الأطفال” وفصلهم عن عائلاتهم بشكل منهجي خلال سنوات من القمع والملاحقة.

وفي تحقيق موسع نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، كُشف النقاب عن ممارسات ممنهجة قام بها النظام البائد، حيث اختطف المئات من الأطفال السوريين أثناء حملات اعتقال جماعية ومداهمات عنيفة استهدفت المعارضين وأسرهم.

التحقيق الذي أُنجز بالتعاون مع الحكومة السورية الجديدة، استند إلى وثائق سرية وشهادات معتقلين سابقين، أظهر أن نحو 3700 طفل ما زالوا في عداد المفقودين.

وتشير المعلومات إلى أن ما لا يقل عن 300 طفل جرى نقلهم إلى دور الأيتام بين عامي 2014 و2018، دون معرفة كاملة بهويتهم أو مصيرهم لاحقًا.

ومن بين القصص الأكثر إيلامًا في هذا الملف، قضية رانية العباسي، طبيبة الأسنان وبطلة سوريا السابقة في الشطرنج، التي اعتُقلت مع أطفالها الستة من منزلهم في حي دمر بدمشق عام 2013، ولم يُعرف أي شيء عنهم منذ ذلك الحين.

زوج رانية، الذي سبقها إلى الاعتقال، توفي تحت التعذيب، وظهر اسمه ضمن صور الضحايا المسرّبة في العام ذاته. أما رانية وأطفالها، فظل مصيرهم مجهولاً لأكثر من عقد، قبل أن تظهر أدلة جديدة تُرجّح وجود بعض الأطفال في مؤسسات الرعاية الرسمية.

الذكاء الاصطناعي في البحث عن الوجوه

في محاولة يائسة للعثور على أثر، استعانت العائلة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لمحاولة تخيل كيف سيبدو الأطفال اليوم بعد 12 سنة من الغياب، إحدى النتائج أظهرت تشابهًا بين فتاة ظهرت في فيديو دعائي و”ديما”، ابنة رانية، إلا أن منظمة SOS المعنية برعاية الأطفال نفت وجود أي صلة وفي حالة أخرى، تعرفت العائلة على فتى يُدعى عمر عبد الرحمن، يشبه أحمد، الابن الأكبر، لكن اختبار الحمض النووي أظهر أنه ليس هو.

منظمة SOS أعلنت أنها استقبلت 139 طفلًا دون أوراق ثبوتية خلال فترة حكم النظام، وأكدت أنها طلبت إيقاف هذه الإحالات منذ 2018، لكنها أشارت إلى أن العديد من الأطفال أُعيدوا إلى سلطات النظام، دون الكشف عن مصيرهم النهائي.

دعوات للبحث والكشف

وبعد سقوط النظام البائد، أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل حملة لدعوة ذوي الأطفال المفقودين إلى التوجه لمديرياتها وتقديم أي معلومات تفيد في البحث عنهم في موازاة ذلك، تواصل منظمات دولية تحذيراتها من أن تجاهل ملف المختفين سيبقي جراح الحرب مفتوحة.

تقول كاثرين بومبرغر، المديرة العامة للجنة الدولية للمفقودين: “الفشل في معالجة هذه القضية قد يغذي دوامات جديدة من العنف”.

وتضيف الصحفية إيزابيل كولز، التي تابعت الملف عن قرب: “الصور الرقمية كانت كشمعة في نفق البحث، لكنها لم تُضف أكثر من حزن جديد حين لم تتطابق الوجوه.”

وفي مشهد يلخّص كل هذا الحزن، تتأمل نائلة العباسي، شقيقة رانية، صورة قديمة لأحمد وهو يضع على رأسه تاجًا ورقيًا في عيد ميلاده، وتقول:
“لن نغادر سوريا قبل أن يعودوا جميعًا.”

عدالة مؤجلة وذاكرة لا تموت

رغم مضي السنوات، لا تزال الحقيقة مغيّبة والعدالة مؤجلة فمصير آلاف الأطفال ليس مجرد ملف إداري، بل جرح وطني مفتوح في ذاكرة السوريين ومع كل كشف جديد، تزداد الحاجة إلى مساءلة حقيقية ومصارحة شاملة، تعيد الحقوق لأصحابها وتمنح الأمهات فرصة لدفن أولادهن إن كانوا اموات، أو احتضانهم إن ظلوا أحياءً خلف الجدران.

سوريا لا يمكن أن تنهض بحق، ما لم تواجه ماضيها بكل شجاعة، وتُعيد بناء مستقبلها على أسس من الحقيقة والعدالة، لا النسيان.

اقرأ المزيد

يلا سوريا – هيا عبد المنان الفاعور

في الثامن من حزيران 2019، رحل صوت من أنقى أصوات الثورة السورية، استشهد الشاب عبد الباسط الساروت، أحد أبرز رموزها، وصوتها الذي لم يخفت، حتى بعد استشهاده بستة أعوام، ما زال اسمه يتردد في القلوب قبل الحناجر، كأيقونة جمعت بين الرياضة والنشيد والسلاح، بين الفن والميدان، بين الدم والصوت، حتى عُرف بلقب حارس الثورة السورية.

من الملعب إلى الثورة:
وُلد عبد الباسط ممدوح الساروت في 1 يناير/كانون الثاني 1992 في مدينة حمص لعائلة بدوية فقيرة، من أب حمصي وأم من أصل جولاني نزحت عائلتها بعد الاحتلال الإسرائيلي للجولان ونشأ في حي البياضة بين ستة إخوة وثلاث شقيقات، وترك مقاعد الدراسة مبكراً ليتألق في ملاعب كرة القدم، حتى أصبح حارس مرمى لنادي الكرامة ومنتخب سوريا للشباب، وحاز على جائزة ثاني أفضل حارس مرمى في آسيا.

ومع اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، لم يتردّد ابن التسعة عشر عاماً في ترك الملاعب والانضمام للمتظاهرين، ليرفع صوته مع أصواتهم، ويقود الحناجر بأهازيج الثورة التي سرعان ما باتت تُسمع في كل المدن.

قائد الحناجر:
أصبح الساروت من أوائل من كشفوا وجوههم في المظاهرات، متحدياً القبضة الأمنية للنظام البائد، فلاحقته التهديدات، وعُرضت عليه تسوية أمنية مغرية مقابل ولائه، لكنه رفض رفضًا قاطعاً الطريق على أي مساومة وقال حينها:
“أنا لو رجعت عن الثورة، بحسّ ما بستاهل أعيش.”

في الساحات، ردد الناس خلفه:
“الموت ولا المذلّة!”

تحوّلت عباراته إلى نشيد يومي للثوار، وصوته إلى ما يشبه نبض الشارع، يغني للحرية، ويودّع الشهداء، ويرفع المعنويات تحت القصف والحصار.

من الصوت إلى السلاح:
في بداية عام 2012، وبعد تصاعد العنف والمجازر، اضطر الساروت لحمل السلاح، وأسّس مع رفاقه “كتيبة شهداء البياضة” للدفاع عن حمص وقاتل في الصفوف الأولى، وأصيب أكثر من مرة، وفقد أربعة من إخوته، لكنه واصل المشوار. قال في إحدى كلماته:
“هي الثورة ما إلها حل… إلا النصر.”

وحين حوصر في حمص لمدة قاربت 700 يوم، بقي صامداً رغم الجوع والحصار وبعد التهجير القسري في أيار 2014، غادر حمص إلى ريفها الشمالي، ثم واجه اتهامات بالتطرف، وهجمات من بعض الفصائل، لكنه نجا، وخرج إلى تركيا لفترة قصيرة قبل أن يعود إلى الشمال السوري.

العودة والرحيل:
عاد الساروت إلى سوريا، واعتُقل لفترة لدى “هيئة تحرير الشام” في 2017، ثم أفرج عنه، وعاد للقتال في ريف حماة الشمالي وفي بداية حزيران 2019، أصيب بجراح بالغة خلال معركة مع قوات النظام، ونُقل إلى تركيا حيث فارق الحياة في 8 حزيران.
نُقل جثمانه إلى إدلب، ودُفن في جنازة ضخمة شيّعها الآلاف، وأقيمت عليه صلوات الغائب ومجالس عزاء في مدن سورية وعربية عدّة ورُفعت رايات كتب عليها:
“سوريا أم الأبطال.. هي قبرهم.”
“بنَهج عمر وأبو بكر حنّا نجي.”

باقٍ في الذاكرة:
لم يكن عبد الباسط الساروت مجرد مقاتل أو مغنٍّ ثوري، بل كان روح الثورة النقيّة، التي حافظت على مبادئها رغم الانكسارات، وعبّر عنها حين قال:
“حانن للحرية حانن.. يا شعب ببيتو مش آمن”

وفي ذكرى استشهاده، يبقى صوته مشتعلاً في ضمير السوريين، يذكّرهم بأن “الثورة ثورة شعب، وبعمره ما فشل الشعب”.

اقرأ المزيد

يلا سوريا – هيا عبد المنان الفاعور

تحررت حمص من قبضة النظام البائد في الثامن من كانون الأول، فسقطت أصنامه من الشوارع قبل أن تسقط من العقول.

أصبح هذا التاريخ نقطة تحوّل كبرى في وعي المدينة وهويتها البصرية فانطلقت بعده مرحلة جديدة، بدأت فيها الجدران تستعيد حريتها، كما استعاد الناس صوتهم المسلوب.

احتُكرت الجدران لسنوات طويلة لصور النظام البائد وشعارات تمجّد الأبدية فلم يكن مسموحًا لأي لون أن يتجاوز حدود المسموح وفرض النظام السابق سطوته على كل مساحة، حتى الجدار لم يُترك بلا رقابة وأصبحت الجداريات الرسمية أداة لترويج السلطة، لا لنبض الناس.

خُنق التعبير في زمن الخوف، فكان كل جدار شاهداً على القمع لا الحرية.

وغُيّبت الوجوه الحقيقية، فأصبح كل جدار يردّد ما تُمليه السلطة، ولم يكن لأحد أن يرسم شيئاً خارج تلك الأطر إلا ويدفع ثمنه اعتقالًا أو تهديدًا.

انبثقت الجداريات بعد التحرير كفعل مقاومة فنية واندفعت الفرق التطوعية إلى الشوارع تحمل الفرشاة بدل الشعارات الجاهزة، وأصبحت الجدران مرآة لكرامة مستعادة واختفت العبارات المعلّبة، وظهرت رسومات تعبّر عن الإنسان، عن الثورة، عن الأحلام المخبّأة خلف الركام.

وتجلّت أولى الرسائل في خريطة سوريا الملوّنة بعلم الثورة، وقد كُتب في وسطها: “سلام عليكم بما صبرتم”، كأنها تقول إن كل ما حصل لم يكن عبثًا، بل ثمرة لصبر طويل وأصبحت الجدران تنطق بما سُكت عنه عقودًا.

عَبّرت جدارية أخرى بكلماتها الشاعرية عن شوقٍ دفين:
“يا حارة العاصي إليك قد انتهى أملي، وأنت المُبتغى والمُنتهى، قلبي يرى المحاسن فيك كلّها، يا حمص يا أم الحجار السود”.

وأصبحت الكلمات بمثابة عهد جديد بين المدينة وأبنائها، بعد زمنٍ طُمست فيه المشاعر تحت أقدام الرعب.

رُسم نسر شامخ إلى جانبه ساعة حمص الجديدة، ودوِّنت عبارة:
“أتظن أنك قد طمست هويتي، ومحوت تاريخي ومعتقداتي؟ عبثًا تحاول، لا فناء لثائر، أنا كالقيامة ذات يوم آت”.

أصبحت الجدران تنطق بثقة، لا بخوف، وتُعلن استمرار الحلم مهما كانت التضحيات.

خُلّدت صورة الشهيد عبد الباسط الساروت في جدارية وبقربها الساعة الجديدة، إلى جانب عبارة:
“شهيدنا لا ما مات”.

أصبحت هذه الصورة مرآة لبطولة تتوارثها الأجيال، ورسالة أن الدم لا يُنسى إذا سُكِب لأجل وطن.

وفي جدارية لافتة، ظهر عنصر من الأمن العام يحتضن طفلًا، لتصبح الصورة رمزًا لتحوّل الدلالات بعد التحرير ولم تعد البزّة العسكرية حصرًا مرادفة للقمع، بل تجرّدت للحظة من سلطتها، لتكشف عن وجه إنساني كان مغيّبًا ورآها الناس مفارقة ناطقة، كأنها تقول إن ما كُبت طويلًا بدأ يظهر حتى من داخل رموز القوة السابقة.

انبثقت من ركام الحصار والدمار فنونٌ تعبّر عن الحياة، بعد أن كانت المدينة تتنفس الخوف فقط.

وأصبحت اليوم تتنفس حرية، كما كُتب على إحدى الجداريات بجانب قيودٍ مكسورة: “سوريا تتنفس حرية.”

لم تكن الجدران يوماً مجرّد إسمنتٍ مطلي، بل كانت وما تزال دفاتر مفتوحة لنبض الناس، بعد التحرير استعادت حمص صوتها، ورسم أبناؤها على حيطانها ما عجزوا عن قوله لسنوات ولكل لون حكاية، ولكل عبارة دمعة وذكرى وأمل وما كُتب على الجدران ليس فنّاً فحسب، بل وثيقة حيّة تُدوّن كيف وُلدت الحرية من رحم الخوف، وكيف نهضت المدينة من بين الركام لتقول للعالم: ما زلنا هنا، وما زال فينا متّسع للحلم.

اقرأ المزيد